فصل: تفسير الآية رقم (66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [66].
{لا تَعْتَذِرُوا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الإشتغال به وإدامته إذ أصله وقع {قَدْ كَفَرْتُمْ} أي: أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: بعد إظهاركم الإيمان.
تنبيه:
قال في الإكليل: قال إلكيا: فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء، وأن الإستهزاء بآيات الله كفر- انتهى-.
قال الرازي: لأن الإستهزاء يدل على الإستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.
وقال الإمام ابن حزم في الملل: كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى، واستخفاف به، أو بنبيّ من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته عزَّ وجلَّ، فلا يحلّ سماعه، ولا النطق به، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به. ثم ساق الآية.
وقوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي: لتوبتهم وإخلاصهم، أو تجنبهم عن الإيذاء والإستهزاء {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي: مصرّين على النفاق، أو مُقدمين على الإيذاء والإستهزاء.
تنبيه:
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة: قال ابن إسحاق: كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عَمْرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مُخَشَّن بن حُمَيّر، ويقال مَخْشِيّ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً. والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله! لوددت أن أقاضى على أن يُضرَبَ كل منا مائة جلدة، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن، لمقالتكم هذه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر: «أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قلتم: كذا وكذا». فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته-: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله! قعد بي إسمي وإسم أبي، وكان الذي عُفِيَ عنه في هذه الآية مخشن، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة، فلم يوجد له أثر انتهى.
وقال عِكْرِمَة: ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعر منها الجلود، وتوجَل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتيلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت.
قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وُجِدَ غيره.
ومما روي في استهزائهم أن رجلاً من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى النبيّ صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: {أَبِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآيَاتِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} الآية، وهو متعلق بسيف الرسول، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: الطائفة في اللغة أصلها الجماعة، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة. انتهى.
وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [67].
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان، كتشابه أبعاض الشيء الواحد. والمراد الإتحاد في الحقيقة والصفة. فمن اتصالية.
قال الزمخشري: أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم، وتقرير قوله: وما هم منكم، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} كالكفر والمعاصي، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} كالإيمان والطاعات: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: بخلاً بالمبرّات، والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود، لأن من يُعطي يمد يده، بخلاف من يمنع {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي: أغفلوا ذكره وطاعته، فتركهم من رحمته وفضله.
قال الشهاب: معنى: {نَسُوا اللَّهَ} أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازاً عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم.
قال النحرير: جعل النسيان مجازاً لاستحالة حقيقته عليه تعالى، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والإنسلاخ عن كل خير.
وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله: {كُسَالَى} فما ظنك بالفسق؟ أفاده الزمخشري.

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [68].
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسبُهُمْ} أي: عقاباً وجزاءً: {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: لا ينقطع.

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [69].
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم، أي: ممن أنعم عليهم ثم عذبوا، والإلتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} في أنفسهم {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً} أي: تفيدهم مزيد قوة، ومنافع جمة {وَأَوْلاداً} أي: تفيدهم مزيد قوة لا تفوت بفوات المال، ومنافع أخر {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي: انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: دخلتم في الباطل، كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج الذي خاضوا {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، أم في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: الذين خسروا الدارين.
روى ابن جريج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه». قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال: «فمن؟» وفي رواية قال أبو هريرة:
«اقرؤوا إن شئتم القرآن»: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية- قال أبو هريرة: الخَلاقُ: الدين- قالوا: يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: «فهل الناس إلا هم»؟ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح- أفاده ابن كثير-.
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت: أي: فائدة في قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ}؟ وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} مغن منه، كما أغنى قوله: {كَالَّذِي خَاضُوا} عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟
قلت: فائدته أن يذم الأولين بالإستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الإستمتاع، ويهجن أمر الراضي به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن، باستناده إليه، عن تلك التقدمة.
ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله:

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [70].
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي: بطريق التواتر {نَبَأُ} أي: خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم {قَوْمِ نُوحٍ} أنعم عليهم بنعم، منها تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان {وَعَادٍ} قوم هود، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح {وَثَمُودَ} قوم صالح، أنعم عليهم بنعم، منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أهلكوا بالهدم- كذا في التنوير.
وقال المهايمي: أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب، أنعم عليهم بنعم، منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قريات قوم لوط، ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل.
وقوله تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} استئناف لبيان نبئهم، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي: بإهلاكه إياهم، لأنه قام عليهم الحجة، بإرسال الرسل، وإزاحة العلل.
والفاء للعطف على مقدَّر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي: فكذبهم فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله، فاستحقوا ذلك العذاب.

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [71].
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في مقابلة قوله في المنافقين، {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي: فلا يزالون يذكرونه تعالى، فهو في مقابلة ما سبق من قوله {نَسُوااللَّهَ} {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} بمقابلة قوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في كل أمر ونهي، وهو بمقابلة وصف المنافقين، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [72].
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: من تحت شجرها ومسكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن {خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش، {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: إقامة وثبات ويقال: {عَدْنٍ} علم لموضع معين في الجنة، لآثارٍ فيه، ولما كان {وَمَسَاكِنَ} معطوفاً على: {جَنَّاتٍ}، قيل: إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات، فيكونوا وُعِدُوا بشيئين، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة، فلكل أحد جنة ومسكن، أو الجنات المقصود بها غير عدن، وهي لعامة المؤمنين، وعَدْنٍ للنبيين عليهم الصلاة والسلام، والشهداء والصديقين، وإما أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول، ويعطف عليه، فكل منهما عام، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين، والثاني باعتبار الدور والمنازل.
قال القاضي: فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم، أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين.
ثم وصفه بأنه دار إقامة وتذكر في جوار العلّيين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة، لعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود، ولأنه مستمر في الدارين. أفاده أبو السعود.
وإيثار رضوان الله على ما ذكر، إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك.
وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة: «يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً».
وروى المحاملي والبزار عن جابر، رفعه: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله عزَّ وجلَّ: «هل تشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا! ما هو خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر».
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: لا ما يعدّه الناس فوزاً من حظوظ الدنيا.